Friday, March 11, 2011

البحث عن خطبة


ليست خطبة الزواج, و لكنها خطبة الجمعة. إنها محاولتي للبحث عن مسجد أستفيد من خطبته بدلا من قضائي لوقت إجباري يعيد لذاكرتي أيام محاضرات الكلية المملة التي كنت أحضرها فقط من أجل "ورقة الغياب".

كنت أصر على الصلاة في مسجد في محيط سكني كنوع من "الانتماء" و "الارتباط", و أن وجود كل إنسان في مكان هو اختبار له تماما مثلما اختبر الناس في السابق في أهلهم أو قومهم أو صحتهم, و أن الاختلاط بتجمعات أهل منطقتي هو معرفة لطباعهم. و كالعادة كانت سلسلة الإحباطات التي تُوِّجَت بإحباطات فترة ثورة 25 يناير. كنت أحاول ملاحظة كل مسجد أدخله لعدة مرات, من صوت السماعات "الهورن", للأذان, لمدة الخطبة و مضمونها, لأسلوب إلقاء الخطيب و ملاحظته لتصرفات الحاضرين. لا أعرف من أين أبدأ و كيف أصف كل نقطة. سأقول أول مثال في ذهني ثم أحاول التفسير: من شاهد المسلسل الإيراني "يوسف الصدّيق" و رأى كهنة معبد آمون فقد يعرف ما أعنيه.

بداية من حب الميكروفون و التلذذ بصوته العالي في حرب الميكروفونات. ففي منطقتي - عين شمس – يوجد بين كل مسجد و مسجد, مسجد. حيث هذا المسجد قد يكون جامعا كبيرا أو زاوية أو بناء معماري غير مفهوم. و الأصوات بين هذه المساجد تنتشر مثل الحيوانات الهائجة. فيكفي أن تقف عند أحد المساجد لتسمعه مع أصوات مسجد أو اثنين حوله. و يتفنن كل كائن حي مسئول عن المسجد في رفع الصوت و دعمه بسماعات "الهورن" التي تضمن إيصال صوته للأموات في كوالالامبور. و إذا تكلّمت معه فكأنك دعوته لدين الصابئة أو أمرته أن يذكر آلهته بسوء! ناهيك عن صغر سنّك و عدم امتلاكك للحية تجعلك شيخا ذو رأي يُحتَرَم!  فهو صوت الإسلام العظيم الذي يجب أن يصل لكل كائن في كل مكان, صحراء كان أو بستان. و بخلف كل ميكروفون تجد من يعاني من مرض "حب الظهور" و ينتظر الفرصة ليمسك بالميكروفون و يعوض مسابقة "سمّعنا صوتك" التي خسرها في التصفيات النهائية! فهو لا يستطيع الغناء و الآن جاءت فرصته لـ"الليل و العين" – "إسلاميك فيرجن". حتى و إن خالف أبسط قواعد اللغة التي تجعل من الأذان جهر بالكفر و تبديل للمعنى بدلا من الدعوة للصلاة و الخشوع. ولا مانع من بعض "المؤثرات الخاصة" مثل صدى الصوت الشهير في فيلم "رابعة العدوية".

ثم آتي لمضمون الخطبة الذي يشبه في كثير من الأحيان قصص فجر الإسلام التي تذاع على القناة الأولى في رأس السنة الهجرية و ليلة القدر – بعد مسلسل غادة عبد الرازق -. نفس المضمون الخالي من أي ربط بين أحداث الماضي و ما نعيشه. نفس المضمون الذي يجعل من مواقف الصحابة و التابعين شكلا من أشكال "أساطير الأولين". نفس المضمون الذي يرتبط في كثير من الأحيان بالتقويم الهجري و ينعزل عن الأحداث الجارية أو طبائع المستمعين. فلا مانع من أن يستمع المصلّي إلى أمثلة للتقوى و رحمة الله بعباده و "يمصمص" شفتيه و يقول "الاااااااااااه" من وقت لآخر كـ"أجدع واحد في حفلة الست" أو يكتفي باللعب في أصابعه أو استكمال حلم ليلة البارحة, ثم يخرج ليسبّ ابنه بالأب و يلعن "دين أم أخوه".

ظللت على هذا الحال حتى قبل ثورة 25 يناير. و قد ضقت حالا بخذلان أهل منطقتي لي مرة بعد مرة, بين رقص أحد أصحاب الجوامع على أنغام "الدي جى" في الشارع و إزعاج البشر, إلى رفع صوت أحد المساجد و اتخاذه إذاعة خاصة عند وجود كتب كتاب, إلى إلقاء بعد الآراء و الفتاوى التي تفتقر إلى صحة السند, إلى رفض أن يكون المسجد مكانا لأي كلام حديث يوجّه الناس بأسلوب مفهوم. و هنا لابد من شكر خاص لأمن الحكومة الذي يترك كل إمام يفعل ما يفعل طالما لا يذكر شيئا عن أمن الدولة العليا أو الحل الصحيح لحلقات المفتش كرومبو. فجاء يوم 28 يناير –مع منعي من التظاهر بحجة العقوق- فقررت ألا أنزل لهذه الخطبة حتى ولو تم أخذ الغياب. و بالطبع فالصوت يصل لي و أنا على الكنبة في البيت. فلم تعد هناك فائدة من هذه المعابد و كهنتها. و قررت أن تكون صلواتي اللاحقة في مسجد ذي قيمة في أي مكان. في يوم التنحّي قررت الصلاة في مسجد "يوسف الصحابي" في مصر الجديدة. فهو مسجد عزيز عليّ, و يبعد عدة محطات عن قصر الرئاسة في حال قررت "العقوق". فوجدت خطبة جمعة غاية في الروعة. حالة من النشوة وصلت إليها و أنا أستمع للربط المحكم بين أحداث عصر الرسالة و الأحداث الحالية. حالة نشوة عرفت منها كم الحرمان الذي كنت أعانيه في الفترة الطويلة السابقة في مساجد منطقتي و المساجد التي كنت أصللي فيها إذا حان وقت الأذان و أنا أقضي أي مصلحة.

بالطبع ظننت أن هذا من باب المصادفة, و انتظرت للجمعة التالية. فوجدت خطبة تنافس السابقة في الروعة. متدرجة في نوع المعلومات حسب درجة معلومات المستمع (فذلك عامل مهم أحاول ملاحظته). و تحثّ على البحث و الاستماع و – الأهم من ذلك – التفكير. ظننت – مرة أخرى – أن هذا بسبب حالة الحرية المنتشرة في الشهر الأخير, و ربما حدث ذلك في معابد عين شمس. اليوم استيقظت متأخرا فلم أجد الوقت الكافي للذهاب فصلّيت في مسجد قريب كنت أصللي فيه حتى وقت قريب, و قررت أن ألاحظ الفروق. و لدهشتي – البسيطة جدا - فقد كان الفرق ليس بالكبير. ربما استفدّت ببعض المعلومات الجديدة ولكنها ليست بالأمر الكبير و لا المهم في هذه الفترة. فالمسجد ليس لمجرد نقل التعاليم من الكاهن للزوّار. و بعد انتهاء الصلاة مررت بمسجد آخر كنت لا أحب الإمام فيه, إمام غليظ الكلام, مرتفع الصوت, متكرر الدعوات التي تطلب من الله أن "يرينا عجائب قدرته", و أن "يهلك أحفاد القردة و الخنازير", و أن "يرزقنا الحاكم الصالح" (فالحاكم قسمة و نصيب زي الجواز بالظبط), و أن "يرزقه الصحبة الصالحة التي تحمينا منه و تحميه" (ذات الدعوة للحاكم المخلوع السابق), و لا أعرف مضمون الخطبة الخاصة به هذه المرة فقد وصلت لدرجة لا أقدر بها على تحمّل هذا الكلام. و كفاني ما استمعت إليه من بعض الدعوات أثناء مروري, و لأول مرة ألاحظ التشابه بين صوته و صوت "نظير جيد روفائيل - شنودة الثالث"!

كان ذلك كافيا لكي أستمر في الذهاب لمساجد أخرى, و انقطاع أي إحساس بالمسئولية تجاه هؤلاء البشر الذين يعيشون في قوقعة و "يتمزّجون" من أسلوب حياتهم. ربما يأتي يوم أمتلك فيه سلطة تحثّني على إعادة المحاولة, و حتى ذلك الحين فليفعل كل إنسان ما يريد .. أو كما في الأفلام "الأمريكاني": فليذهب إلى الحجيم .. أو إلى عين شمس.

No comments:

Post a Comment

Powered by Blogger.