Tuesday, October 30, 2012

مع ساندي أم ضدها؟

عندما جاءت العاصفة ساندي لتلقى بمياهها و تدفع بدمارها على الساحل الشرقي للقارة الأمريكية الشمالية, ظهر ذلك الخلاف عن ما إذا كان من حق أحد الفرح بهذا الدمار أم لابد من التعاطف مع الإخوة المواطنين في الولايات المتحدة الشقيقة. هنا يأتي سؤالي: هل الشعب الأمريكي منفصل عن قراراتها؟

New Jersey, Image courtesy @errieleo


عندما أرجع بالزمن أجد أن الشعب الأمريكي إما موافق على قرارات رؤسائه, و إما غير موافق ولا ينتفض أبدا. و ذروة حنقي كانت عند إعادة انتخاب جورج بوش الابن لكي "يكافح الإرهاب" و يحمي أمن الولايات المتحدة القومي بشكل مستفز يذكّرني بتأييد هتلر أو نيرون من قِبَل شعوبهم في قراراتهم الدموية. عندها  كنت على يقين أن أغلبية من يملكون حق التصويت هم من وافق على استمرار تنديس الأراضي المسلمة و اغتصاب و ذبح نسائها و تعذيب رجالها و التبول على المصاحف و هدم و حرق مساجدها في أفغانستان و العراق و استمرار التدخل المستمر في قرارات باقي الدول بجانب القواعد العسكرية و حماية الورم الصهيوني المستمر في التجريف و القتل و توسيع ورمه.

إن كان للديمقراطية فائدة, فهي إشراك المواطنين في مسئولية ما يفعله القائد. تلك الأغلبية المستمرة في الموافقة أو الخضوع هي سبب رئيسي في ما يحدث للمواطنين في الناحية الأخرى من الأرض التي لا يعرفون عنها الكثير. حينها و إن تعاطفت مع هؤلاء الناس بجانبي الإنساني, إلا أنني لا أملك إلا أن أفرح في العقاب و الدمار الذي لا تستطيع دولة على الأرض أن تنقله إلى القارة الأمريكية -اللهم إلا هجوم 11 سبتمبر 2001, فالحرب مع هذا الورم الكبير (الدولة الأمريكية قامت على الإبادة و الاستعباد, تذكير لمن ينسى) كانت دائما خارج أرضه إلا من هجوم بريطاني شرقي هنا (في البداية) أو هجوم على ساحل غربي هناك (الحرب العالمية الثانية).

كونك لم تنشأ في دولة مدمَرة أو لم تدخل سجنا أو لم تفقد عزيزا أو لم تشعر بإهانة لجريمة خارج "تراب" بلدك لا يعني أن أهل هذه البلاد أو من يتعاطف معها أو من يشاركها قضيتها يشاركونك نفس الشعور. كم أود أن أتعاطف بدافع الإنسانية, لكن قلبي انفطر مرة بعد أخرى و قارب رصيد تعاطفي على النفاذ من كثرة الجرائم التي استهدفت بلدي و ديني و إقليمي و جنسي و كوكبي.

Monday, October 29, 2012

التربية الوطنية بالإكراه

هناك نظرية (و حدثت معى كثيرا) بأن أي أغنية تحبها سوف تكرهها إذا وضعتها نغمة للرنين على تليفونك المحمول. و يحدث نفس الأمر عند سماع العديد من الكلمات أو رؤية أمكنة مرتبطة بمواقف محددة. كذلك التربية الوطنية. ما هي التربية الوطنية؟ ما أذكره من المدرسة أنها كانت تشبه حصص التاريخ إلا أن بها إضافة: تخطّي حاجز العلم و إضافة التزام أدبي و نفسي بأن هذه المادة تمثّل مقدار انتمائك للوطن و حبك له. فهي حصة تاريخ مع إضافة عنصر الإكراه على حب المحتوى.

في تسعينيات القرن الماضي, انتشرت صيحة أزياء مقززة تتمثل في قمصان و أربطة شعر و حقائب عليها العلم الأمريكي, و كنت أتعجّب من عدم وجود مثيلاتها بالعلم المصري أو حتى الفلسطيني. بل عندما عدّلت في شكل ساعة يدي لتحمل ألوان العلم الفلسطيني وقت الانتفاضة وجدتها ملفتة للأنظار كأمر غريب تسقط أعين الناس عليه لأول مرة. ثم في بدايات هذا القرن و حتى الآن توجد ملابس و حقائب (لا أربطة شعر لأن صيحتها انتهت) تحمل أعلاما للبرازيل و إيطاليا, رغم أن الشركات المصنّعة هي شركات مصرية أو صينية! فلماذا هذا الحب للغرب و كره الوطن؟!

منذ أيام رأيت صورة من فيلم Iron Man III و قد تغيّرت ألوانه ليشبه Captain America, وفي خلفيته علم الولايات المتحدة, و هو أمر يحدث كثيرا في أفلام الأبطال الخارقين, بداية من الأفلام الأولى لـSuperman و حتى Spiderman و Captain America. حينها لاحظت الأمر بشكل مكثّف أكثر من أي وقت مضى. لقد تحوّل حب هذا الاختراع الحربي من مجرد حب للإثارة أو التكنولوجيا إلى رمز وطني. و بربط كل التاريخ الأمريكي القصير نجد حب رعاة البقر و المهاجرين الأوائل في حروبهم ضد الجيوش البريطانية (على أرض لا حق للطرفين فيها) حتى العصر الحديث بل و المستقبل و الخيال العلمي الذي يصوّر الولايات المتحدة (و أحيانا البطل الأبيض, و أحيانا البطل المسيحي) كمركز للدفاع عن الكوكب و حماية بني البشر. (سؤال اعتراضي: ماذا تعرف عن طارق بن زياد؟ و كيف كان شكله الحقيقي و أصل جنسه؟)


فماذا نملك من وسائل لربط الإنسان بوطنه أو دينه أو أهله؟ .. لا شيء. فكما ذكرت من قبل, لا يوجد إلا نظامٍ تعليميّ عقيم يدفع بالملل و الكراهية لأي مادة علمية أو أدبية يدرسها الطالب.و ها نحن في آخر يوم لعيد الأضحى (العيد الديني) و ها هي قاعات السينما مليئة فقط بأفلام كوميدية فارغة المحتوى (الضحك للضحك) و أفلام بلطجة و تحرش على أنغام موسيقى لا تمتّ للفن بصلة, بقيادة جيوش السبكي للّحوم.

نحن نتحدث عن أناس لا يريدون جدّية في الحديث (بل يكاد شكّي يتأكد في أن أيا من هؤلاء لن يعجب بما أكتب). أناس كانوا يجتمعون خلف رسول الله -صلى الله عليه و سلّم- فلما مات اهتزّوا و منهم من تراجع. أناس اجتمعوا خلف عبد الناصر رغم جرائمه و هزائمه و لا يزالون يدافعون عنه. العمل المستمر و جذبهم بشتّى الطرق هو الأسلوب الوحيد للدفع بأفكار مختلفة في عقولهم أو جمعهم على أمر مفيد. قد يكون ذلك بأفلام ذات إنتاج كبير تجذبهم لها دون أن يكون المحتوى ثقيلا أو مباشرا. قد يكون ذلك بالتركيز على كلمات قليلة في الخطابات و المشاريع لكي لا يتشتت هذا العقل الذي يتوق للراحة و التبعية السهلة. قد يكون ذلك بإظهار الأمثلة الجيدة في مختلف الطبقات و صنع أبطال عديدين لكي يصبحوا عناصر تأثير تجذب الأتباع من الطبقات المختلفة.

في هذه الفترة من نكستنا المستمرة لمئات السنين, لا فائدة لأي قيمة أو دين (أكرر: دين) مع وجود هذا الكم من الجهل و رفض الواقع و الجري وراء ملذّات مسكّنة. طريقة العمل هي التي تصنع الفرق. فهل من منتج أو مبتكر ... أو بطل؟

Tuesday, October 23, 2012

شالو هال - القصة الحقيقية

عندما رأيت فيلم Shallow Hal معروضا على إحدى القنوات منذ عدة أيام, تذكرت تجربة قام بها شخص مقرّب جدا منذ عدة سنوات. لمن لا يعرف قصة الفيلم, فهي باختصار عن شخص يجري وراء النساء حسب مظهرهن الخارجي, و في يوم من الأيام قابل معالجا روحيا قام بتنويمه مغناطيسيا بحيث يري الجوهر لا المظهر, و بعد ذلك تغيّرت معاييره تماما. و توجد منه نسخة مصرية مقلّدة للمنتج المخرّب للسينما المسمى بـ"السبكي": حبيبي نائما.



عندما تذكّرت التجربة, فكّرت في انجذاب الناس لكل ما هو مستحيل و حبّهم للخوارق رغم وجود بدائل تقرّبهم من أحلامهم. بل في بعض الأحيان تفقد الأحلام جمالها عندما تتحول إلى حقيقة. و على خلاف هذا, فقد كانت التجربة جديرة بالاستمرار لعدة أسابيع, ثم شهور, ثم سنوات. مقدمات التجربة باختصار كالآتي: كان هذا الشخص يشعر بانعدام الأخلاق في الاستهزاء بشخص بسبب صفات لا دخل له فيها كالمظهر, و لكن في نفس الوقت لا يمكن التحكم في رد الفعل في المواقف المفاجئة. ثم جاء مثال آخر يوضح أهمية رد الفعل في حلقة للدكتور عمرو خالد, ذكر فيها أن عاملا للنظافة رآه في الشارع فأراد احتضانه, فكانت هي لحظة واحدة لأن يحتضنه بالمثل أو ينفر (و إن احتضنه لاحقا), فهذه اللحظة كفيلة بمعرفة الرد الحقيقي للإنسان قبل أن تتدخل العوامل الأخرى للعقل, و هي لحظة يمكن للطرف الآخر أن يلحظها و يتأثر بها.

ظهرت فكرة التجربة عندما حاول هذا الشخص إقناع نفسه بأن لكل إنسان جماله, و أن لا شخص كامل. فكانت جملة مثل: "و مين جميل؟" للاعتراض على كمال أي إنسان. و هذه الجملة كانت ذات تأثير فتمسّك بها, و إلى هنا انتهى الجزء اليسير الذي كان مليئا بالتتابعات الغير مقصودة و بدأ جزء العمل. هذا الجزء احتاج لمراقبة العقل طوال الوقت في انتظار أي موقف يحتاج العقل فيه للحكم على شخص من الخارج. فكلما جاءت فرصة للحكم على شخص بالدمامة أو الجمال كان عليه أن يذكّر نفسه بأن لا أحد كامل و لكلٍ نقاط قوة و ضعف, مع استطرادات و بحث في كل حالة إن أمكن. و استمر هذا الأمر معه كما ذكرت لسنوات. وفي كل مرة تزداد الثقة و تزداد سرعة البحث عن نقاط الجمال في كل شخص. و مع الوقت -و كما في تدريبات الدفاع عن النفس- يصبح الأمر تلقائيا و لا يحتاج لوقت تفكير أو عامِل حفّاز. و بذلك -و مع الوقت- بدأت الفروق بين الناس تقلّ بشكل تدريجي -و إن استمر وجود الكثير منها- بشكل كاف لتقبّل عدد أكبر من الناس و تقليل الانجذاب لعدد أكبر من أصحاب المظاهر الجذابة.

تلك كانت التجربة باختصار. لا أظن أنها مناسبة للجميع لأن لكل شخص تفكيره -و البعض لا يفكر من الأساس-, و لأن لكل شخص طريقة تأثير تناسبه. و لكنني وجدتها طريقة جديرة بالاحترام. ففي حين أن الأمر يبدو ظاهرا في كتب الدين و في دروس المدارس و حلقات التنمية البشرية, إلا أن طريقة التطبيق هي التي تحدد إذا كانت الفكرة ستستمر و تدخل النفوس أم ستظل على الأوراق.

Wednesday, October 17, 2012

افتح سايبر

المشهد الأول: ورشة عمل عن التسويق

تم تقسيم الحاضرين لمجموعات و على كل مجموعة أن تحدد فكرة مشروع ثم تقوم بتطبيق عدة نقاط على هذا المشروع. في مجموعتي, اقترح أحدهم فكرة و قد كانت فكرة مضمونة الربح بشكل كبير. ملخصها كالآتي: مجمّع يشمل مقهى (كافيه) و صالة ألعاب رياضية (جيم) و مقهى إنترنت (نت كافيه).  و وافقنا على الفكرة و كانت من الأفكار التي تبدو قابلة ااتنفيذ على مراحل بين الأفكار المطروحة من الفرق.

المشهد الثاني: مترو الأنفاق

رجل يتحدث مع آخر عن فكرة مشروع ربحي, فيقوم زميله باقتراح: "افتح سايبر, و أنا معاك في المشروع" (سايبر = مقهى إنترنت). و نبرة الرجل كانت واثقة حين اقترح هذا المشروع, بل و عرض عليه المشاركة و ذكر له التكلفة التقريبية. فهي فكرة ناجحة و الإثبات موجود في كل شوارعنا.

من هذين المشهدين - و غيرهما في حياتي و تلفازي- تظهر الثقافة الربحية التي أصبحت منتشرة في كل مكان بشكل من أشكال التفاعل المتسلسل, حيث يحاول واحد و ينجح, فيقلده آخر و يتجح, ثم آخر ثم آخر. و في الطريق تظهر عدة أمثلة للفشل ليتعلم الجميع كيفية تفادي الغلطة القاتلة -طريقة تفنيد مستندات, رشاوى, منتجات غير مطلوبة, تأمين .. إلخ-. منذ سنوات وعيي و حتى الآن رأيت السلسلة و هي تخرج من حيّز المقاهي الشعبية و محلات الألعاب الإلكترونية (السيجا) لتنتشر و يتغير شكلها حسب تغيرات المجتمع -و التقليد بين المحلات- إلى مقاهي لعرض المباريات و قنوات الأغاني و "كافيهات" حديثة تعرض الأغاني و المشروبات الغربية و يتحدث عمالها بالانجليزية, و مقاهي للإنترنت و الـ"بلايستيشن" , و محال لبيع الموبايل و اكسسواراته.

و ها أنا اليوم أنظر من حولي لأرى ثقافة استهلاكية -و هدمية أيضا- لا تحرّكنا قيد أنملة للأمام. ففكرة المشروع لا تعني أي فكرة أو هدف إلا المال, و المال فقط. فبالإضافة لأن الكثيرين لا يريدون في الحياة إلا لقمة العيش و لا يجدون الوقت للبحث عن إنسانيتهم أو دينهم -أو أي شيء متجاوز للأحشاء-, لم تكن يوما -على الأقل في سنوات حياتي- المغامرة ضمن الحسابات, و لذلك أصبح التقليد هو الشيء الأضمن بدلا من التجريب. أو كما قال "الشفيق فريق": سكان الوديان سهلي المعشر و الانقياد (هل أنا حقا أقتبس عنه جملة مفيدة؟!). 

ما المشكلة في ذلك؟ دعوني أضرب مثالا أولا: في بعض الإحصائيات يظهر النمو للمحتوى العربي على الإنترنت مطردا بشكل جنوني. فما هو المحتوى في الحقيقة؟ كان هو المنتديات العربية التي لا تضيف الكثير من الفائدة مقارنة بالأكوام من الإشاعات و المواضيع الدينية المكذوبة و روابط التحميل لملفات مسروقة. كذلك السوق الأن, مئات من "المشاريع" التي -و إن كانت تدر دخلا لأسر- لا تضيف شيئا لمجتمعها أو دينها أو حتى لنفسها, بل على العكس, مع ازدياد أعدادها تصبح ذات تأثير سلبي على المجتمع بجوانبه المختلفة.

قليلون من يحاولون. منهم من ينجح , فيقلّده آخرون إن استطاعوا سواء بهدف أو بدون. و منهم من يفشل, فيحتاط الآخرون من نوعية المشاريع هذه. و في وسط هذا الهراء ما العمل؟ لا أرى إلا التحالفات و المساعدات. فمن سيجازف بكل ما يملك من أجل "فكرة"؟ و من سيستطيع دعوة الناس بمفرده لسلعة لا يحبونا دون حتى أن يجربونها, ولا يتجرؤون إلا عندما يجدونها تنتشر؟ المشاريع كغيرها من الأفكار و الجماعات, لا تنتشر بأفراد إلا في حالات نادرة من التوفيق أو التعب الشديد, و لابد لها من دعم مادي و معنوي. ما أتحدث عنه هنا ليس أمرا هيّنا, فهي ثقافة مجتمع بطبقاته من الأشد فقرا إلى الأشد غنى. و هنا سؤال جديد: هي تتغير الثقافة قبل أن تتغير الأفراد؟ و هل يتغير الأفراد بدون محاولات فردية؟

يبدو أن الأمر في النهاية بيد الأفراد لا الجماعات -كالعادة- لحين ازدياد أعدادهم ما بين عامل و مؤيد لتبدأ الصخرة في التدحرج.

Tuesday, October 9, 2012

الشيخ أبو حمالات إبراهيم بن عيسى الفاصل

منذ عدة سنوات -عندما كنت طالبا في كلية الهندسة- كنت أحضر محاضرة لأحد مهندسي البرمجيات و قد تطرق لأسلوب عمله مع شريكه الذي هو في نفس الوقت صديقه. كان يتحدث عن أنه عندما يدخل لغرفة الاجتماعات مع شريكه فإنهما يتركان صداقتهما و كرامتهما .. إلخ على الباب و يدخلون لمناقشات العمل و مشكلاته و عصبياته. و عند خروجهما يلتقطان ما تركاه على الباب, و لا مانع من أن يذهبا سويا لتناول الطعام أو المشروبات. كان هذا مثالا جيدا للفصل بين العمل و الحياة الخاصة و عدم تأثير خلافات العمل على الصداقة.

و منذ سنوات و حتى الآن أجد الكثيرين الذين ينادون بفصل الدين عن السياسة, ولا دخل لتعاليم هذا الإله بأمور الحياة العامة, فلا أحد يحتكر الإله (!). و من هؤلاء الفقهاء الجدد الشيخ: أبو حمالات إبراهيم بن عيسى الفاصل. "إبراهيم بن عيسى" هو اسمه, و "أبو حمالات" هي كنيته, و "الفاصل" هي صفته التي تناسبه. فقد أظهر -كغيره- ما في جعبته من معاداة للآخر بمجرد أن يخالف رأيه أو اتجاهاته في أمر هام.  و حتى هذه اللحظة لا أفهم كيف يضع الإنسان لنفسه مجموعة من الأخلاق و المبادئ لحياته الشخصية و مجموعة أخرى لحياته العامة. فإن كان الفصل ممكنا في الخلافات بين شركاء التجارة أو الدراسة, فهي لا تزاال تقع تحت مظلة تعدد الآراء دون تدخّل في المبادئ, فالأمر لا يتعلّق بأخلاق أو عقائد ولكنه مجرد خلاف في استراتيجيات أو نظريات. و لكن غير المعتاد هو أن ينتمى شخص لدين او جماعة لها مجموعة من المبادئ و الممارسات التي يفترض بها أن تطبّق في حياته حتى آخر نفس في صدره, ثم يتركها في بيته و ينزل للشارع بمبادئ و ممارسات جديدة تخالف ما تركه بالمنزل! و ها هو الفقيه يضرب من جديد في ذكرى حرب أكتوبر عندما يتحدث عن الفصل بين بطولات الفريق مبارك في الماضي و جرائمه في الحاضر, و كأن الماضي ينتمي لشخص و الحاضر لشخص, و كذلك حسابه!


في ذكرى وفاة الدكتور المفكر المناضل (ولا مانع من ذكر اليساري) عبد الوهاب المسيري رحمه الله, فأنا أذكر نقطة مهمة تعجبني في أفكاره و دراساته. فهو رغم اهتمامه بالتفاصيل و الأصول في كل جانب في دراساته, إلا أنه لا ينسى أن يجمّع ما يملك مرة أخرى ليلقى نظرة شمولية على موقف أو جماعة ما. فقد كان له رأي في أن الإنسان هو كائن مركّب متعدد الأبعاد لا يمكن الحكم عليه بجانب واحد في حياته أو شخصيته. و هو ما ينكره الكثيرون الآن من باب: دع ما لقيصر لقيصر و ما لله لله, و كأن الله و قيصر شريكان في الحكم أو ملوك لدولتين مختلفتين (!).

جانب آخر من الفصل الذي وجدته انتشر منذ حوالي السنة, هو الأعمال الخيرية للأم أنجيلينا. حيت تتعالى الهتافات بجمال و عظمة و تواضع الفنانة القديرة. و كيف أنها مثال للإنسانية و الأخلاق الحميدة. و حين يخرج صوت للقول بأن أخلاقها ليست بهذا الجمال و أن الأخلاق هي حزمة كاملة تؤخذ بأعمالها الخيرية و الفنية و حياتها الخاصة, تخرج في المقابل أصوات عديدة باتهامات من نوعية: إحنا لاقيين غيرها بنشاط خيري؟, إحنا مالنا إحنا لينا بتبرعاتها, شغلها حاجة و تبرعاتها حاجة... إلخ. و بالرغم من أن هذا الكلام ق يكون صحيحا كنوع من تقبّل الخيار المتاح لحين وجود بديل, إلا أن ما يحدث -كالعادة- هو تنازل مؤقت ثم تركيز ثم مبالغة ثم يصبح الأمر هو المعتاد, تماما مثل التفريط في إنسانية الفقير الذي أصبح هو المعتاد, و استخدام القوة لأخذ الحقوق و النجاة في حياتنا, أو حتى القيادة التي أصبحت حربا مرورية.

و تبقى نقطة, ما هو السبب الرئيسي المؤثر في طريقة التفكير الفصلية (التفكيكية) هذه؟ أم هي عدة أسباب مجتمعة؟ هل السبب تأثر الضعيف بالقوي؟ عدم إيمان الإنسان بما لديه لأنه لم يعطه ما يريد؟ هل هو التعوّد و الانشغال بمشكلات الحياة اليومية دون أن يجد الإنسان فرصة للتفكير في صورة أبعد من رغيفه؟

دون إيجاد رأس المشكلة فلا فائدة من الصيحات المتكررة التي لا يسمعها أحد -بل يتخذ البعض منها موقفا دفاعيا بدافع الطبيعة الإنسانية من كل ما هو مخالف للمتعود عليه-. و هذا يقودنا للمشكلة المعتادة, من يسيطر على الإعلام هو من يملك اليد الغالبة, و من يملك المال و الرغيف هو من يتوقف الناس ليسمعوه. لذلك فحتى يصل من بملك الفكرة لمواضع القوة التي تسهّل عمله, لابد من توزيع المهام بين كلام و عمل. فالكلام وحده لا يفيد, و العمل وحده لا يجلب الدعم الكافي. و لكن يبدو أن للمنابر إغراء لا يقاوَم. فينصرف كلٌ إلى قناته أو جريدته يكلّم أتباعه, و من يستطع أن يصل بوسيلة -في الغالب ملتوية أو على الأقل بها تنازلات بحكم القانون الصراعي (الدارويني) الحالي- لنقاط القوة هو من يستطع التأثير و فرض قوانينه. لذلك فمن يريد أن يثبت على مبدأه و لا يفرّط من أجل الوصول أن يعمل و يعمل مع وضع وقت للكلام, فهو يحتاج لمجهود إضافي لتجنّب التنازلات. فهل من عامل؟
Powered by Blogger.