منذ عدة سنوات -عندما كنت طالبا في كلية الهندسة- كنت أحضر محاضرة لأحد مهندسي البرمجيات و قد تطرق لأسلوب عمله مع شريكه الذي هو في نفس الوقت صديقه. كان يتحدث عن أنه عندما يدخل لغرفة الاجتماعات مع شريكه فإنهما يتركان صداقتهما و كرامتهما .. إلخ على الباب و يدخلون لمناقشات العمل و مشكلاته و عصبياته. و عند خروجهما يلتقطان ما تركاه على الباب, و لا مانع من أن يذهبا سويا لتناول الطعام أو المشروبات. كان هذا مثالا جيدا للفصل بين العمل و الحياة الخاصة و عدم تأثير خلافات العمل على الصداقة.
و منذ سنوات و حتى الآن أجد الكثيرين الذين ينادون بفصل الدين عن السياسة, ولا دخل لتعاليم هذا الإله بأمور الحياة العامة, فلا أحد يحتكر الإله (!). و من هؤلاء الفقهاء الجدد الشيخ: أبو حمالات إبراهيم بن عيسى الفاصل. "إبراهيم بن عيسى" هو اسمه, و "أبو حمالات" هي كنيته, و "الفاصل" هي صفته التي تناسبه. فقد أظهر -كغيره- ما في جعبته من معاداة للآخر بمجرد أن يخالف رأيه أو اتجاهاته في أمر هام. و حتى هذه اللحظة لا أفهم كيف يضع الإنسان لنفسه مجموعة من الأخلاق و المبادئ لحياته الشخصية و مجموعة أخرى لحياته العامة. فإن كان الفصل ممكنا في الخلافات بين شركاء التجارة أو الدراسة, فهي لا تزاال تقع تحت مظلة تعدد الآراء دون تدخّل في المبادئ, فالأمر لا يتعلّق بأخلاق أو عقائد ولكنه مجرد خلاف في استراتيجيات أو نظريات. و لكن غير المعتاد هو أن ينتمى شخص لدين او جماعة لها مجموعة من المبادئ و الممارسات التي يفترض بها أن تطبّق في حياته حتى آخر نفس في صدره, ثم يتركها في بيته و ينزل للشارع بمبادئ و ممارسات جديدة تخالف ما تركه بالمنزل! و ها هو الفقيه يضرب من جديد في ذكرى حرب أكتوبر عندما يتحدث عن الفصل بين بطولات الفريق مبارك في الماضي و جرائمه في الحاضر, و كأن الماضي ينتمي لشخص و الحاضر لشخص, و كذلك حسابه!
في ذكرى وفاة الدكتور المفكر المناضل (ولا مانع من ذكر اليساري) عبد الوهاب المسيري رحمه الله, فأنا أذكر نقطة مهمة تعجبني في أفكاره و دراساته. فهو رغم اهتمامه بالتفاصيل و الأصول في كل جانب في دراساته, إلا أنه لا ينسى أن يجمّع ما يملك مرة أخرى ليلقى نظرة شمولية على موقف أو جماعة ما. فقد كان له رأي في أن الإنسان هو كائن مركّب متعدد الأبعاد لا يمكن الحكم عليه بجانب واحد في حياته أو شخصيته. و هو ما ينكره الكثيرون الآن من باب: دع ما لقيصر لقيصر و ما لله لله, و كأن الله و قيصر شريكان في الحكم أو ملوك لدولتين مختلفتين (!).
جانب آخر من الفصل الذي وجدته انتشر منذ حوالي السنة, هو الأعمال الخيرية للأم أنجيلينا. حيت تتعالى الهتافات بجمال و عظمة و تواضع الفنانة القديرة. و كيف أنها مثال للإنسانية و الأخلاق الحميدة. و حين يخرج صوت للقول بأن أخلاقها ليست بهذا الجمال و أن الأخلاق هي حزمة كاملة تؤخذ بأعمالها الخيرية و الفنية و حياتها الخاصة, تخرج في المقابل أصوات عديدة باتهامات من نوعية: إحنا لاقيين غيرها بنشاط خيري؟, إحنا مالنا إحنا لينا بتبرعاتها, شغلها حاجة و تبرعاتها حاجة... إلخ. و بالرغم من أن هذا الكلام ق يكون صحيحا كنوع من تقبّل الخيار المتاح لحين وجود بديل, إلا أن ما يحدث -كالعادة- هو تنازل مؤقت ثم تركيز ثم مبالغة ثم يصبح الأمر هو المعتاد, تماما مثل التفريط في إنسانية الفقير الذي أصبح هو المعتاد, و استخدام القوة لأخذ الحقوق و النجاة في حياتنا, أو حتى القيادة التي أصبحت حربا مرورية.
و تبقى نقطة, ما هو السبب الرئيسي المؤثر في طريقة التفكير الفصلية (التفكيكية) هذه؟ أم هي عدة أسباب مجتمعة؟ هل السبب تأثر الضعيف بالقوي؟ عدم إيمان الإنسان بما لديه لأنه لم يعطه ما يريد؟ هل هو التعوّد و الانشغال بمشكلات الحياة اليومية دون أن يجد الإنسان فرصة للتفكير في صورة أبعد من رغيفه؟
دون إيجاد رأس المشكلة فلا فائدة من الصيحات المتكررة التي لا يسمعها أحد -بل يتخذ البعض منها موقفا دفاعيا بدافع الطبيعة الإنسانية من كل ما هو مخالف للمتعود عليه-. و هذا يقودنا للمشكلة المعتادة, من يسيطر على الإعلام هو من يملك اليد الغالبة, و من يملك المال و الرغيف هو من يتوقف الناس ليسمعوه. لذلك فحتى يصل من بملك الفكرة لمواضع القوة التي تسهّل عمله, لابد من توزيع المهام بين كلام و عمل. فالكلام وحده لا يفيد, و العمل وحده لا يجلب الدعم الكافي. و لكن يبدو أن للمنابر إغراء لا يقاوَم. فينصرف كلٌ إلى قناته أو جريدته يكلّم أتباعه, و من يستطع أن يصل بوسيلة -في الغالب ملتوية أو على الأقل بها تنازلات بحكم القانون الصراعي (الدارويني) الحالي- لنقاط القوة هو من يستطع التأثير و فرض قوانينه. لذلك فمن يريد أن يثبت على مبدأه و لا يفرّط من أجل الوصول أن يعمل و يعمل مع وضع وقت للكلام, فهو يحتاج لمجهود إضافي لتجنّب التنازلات. فهل من عامل؟
No comments:
Post a Comment