بداية أقول ان هذه التدوينة لا تصل إلى أي استنتاج -و لا أتوقع أن تصل- و لكنها نزهة تفكير ذهبت بها عندما حاولت أن أفكّر في الفرق الشاسع بين تفكير العبد المخلوق و الرب الخالق. و السبب في تدوينها و عدم تركها داخل رأسي هو أنه ربما يصطدم أحدهم بهذه التدوينة و يجد أن فكرتي المكتوبة مشابهة لفكرته, و عندها يعلم أنه ليس وحده في هذا العالم, و أننا كثيرون و لكننا لا نتقابل, أو ربما نخاف من التعبير عن أفكارنا.
كنت منذ عدة أيام أفكّر في وصف الجنة, و في النقاء الذي يسعى إليه الإنسان, و طبيعة الإنسان الأرضية, ثم ظهر في رأسي هذا التساؤل: هل بعد أن يصل العبد لدرجة من الخوف أو الحب أو الخشوع تجعله يستغني عن البذخ و الإكثار من المتع أيا كان نوعها, هل سيريد حقا أن ينعم بهذه الأشياء في الآخرة إلى الأبد؟ إلى مالانهاية؟ ألا يفترض بالإنسان أنه يصل لدرجة من النقاء قبل دخول الجنة (ونزعنا ما في صدورهم من غل)؟ هل ستظل أفكارنا بنفس دنيويتها؟ هل سنظل نشتاق للمتع الأرضية حتى بعد أن نرى الله و الملائكة و نري مجتمعا جديدا لا يرى قيمة لما نقدّره نحن؟ ماذا لو كانت الجنة مختلفة؟ مجرد افتراض جدلي, ماذا لو كان وصف الجنة هو مجرد تشويق لنا و نحن مازلنا في حالة تشوّق لكل ما هو أرضيّ من النعم؟
لأوصل تفكيري بشكل أفضل, سأضرب مثالا من حياتنا الأرضية. عندما يحث الأبوان أطفالهما على الاجتهاد في المذاكرة و دخول أفضل الكليات و المعاهد العلمية و العمل في أرفع و أندر المواقع, هل يبدؤون مع الطفل ذي الأربع سنوات بقولهم: إذا اجتهدت من الآن سنهديك محاكيا للفوتونات و لربما تصبح لائقا للعمل في يوم ما على أحد مصادمات الجزيئات الدون ذرّيّة؟ أم أنهم ينزلون لمستوى الطفل الصغير و يقولون "علشان ننبسط منّك" أو "عشان نروح جنينة الحيوانات في الأجازة" أو "نجيبلك شوكولاتة كبيرة من اللي بتحبها" .. إلى آخر الأمثلة التي نسمعها؟ على الرغم من أن الطفل إذا كبر و وصل إلى مستوى متقدم من العلم فسيعرف قيمة هذه الأجهزة و التجارب المعقّدة و أنها لا يمكن مقارنتها برحلة لرؤية حيوانات حبيسة أو أكل قطعة كبيرة من الحلوى, إلا أنه حتى يكبر سيظل متعلقا بأشياء تفقد قيمتها كلما كبر عقله و زاد استيعابه.
و بالرجوع لأفكاري -المختلّة في نظر البعض-, أفكّر في أن الله مطلق العلم بحيث لا نستطيع نحن البشر أن ندرك علمه, ولا تكفي أحبار الدنيا كلها لتدوين علمه. فكيف سيوصل لنا الله فكرة استحسان العمل الطيب و البعد عن الظلم و ترك الملذّات الزائلة؟ عقلنا البشري -بالرجوع للمثال السابق- هو عقل متدنٍّ جدا بالنسبة لعلم و حكمة خالقه, و بالتالي فالإنسان قد يترك إحدى اللذّات في الدنيا (قطعة شوكولاتة مثلا) لأجل لذّات مضاعفة في الآخرة (لوح كبيييييير جدا من الشوكولاتة), و لن يقتنع إذا وصف الله له -مثلا, فهو علم غيب- عالما نورانيا ترتفع فيه الروح كلما زاد نقاؤها. بالرغم من أن هذا العالم قد يكون أفضل بملايين المرات من عالمنا الأرضيّ بملذّاته, إلا أنه حتى هذه اللحظة لا يمثّل لنا شيئا ولا يحرّك همّتنا.
أردت أن أقول أن وصف الجنة كان يشكّل لي نوعا من الالتباس, ففي الجنة ما لا عين رأت و لا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر, و بالرغم من ذلك أجد وصفا لنخيل و أعناب و خمر و لبن و عسل و أرائك و حور عين (للرجال, و لا وقت للدخول في جدال وصف الحور العين للرجال و جزاء السيدات, و إن كنت أرشّحه للقراءة), و أجد وصفا لقصور من لؤلؤ و خدم يطوفون بالكؤوس. كل تلك الأشياء يوجد مثلها في الدنيا, و احتسابنا عند الله أن ما في الجنة سيكون له جمال فائق لما نعرفه و لذّة لم نشعر بمثلها. و من هنا جاءت الفكرة في أن هذه الأشياء ربما تكون تحفيزا للروح بما تعرفه من لذّة أرضية, ولا أظن أنني لو ارتفعت في المكانة (أسأل الله الجنة) و وجدت شيئا مختلفا تماما يناسب مكانتي الجديدة و هيئتي المختلفة أنني سوف أحزن. فالله قد وعدني بما يفرحنى و ينسيني أشد الابتلاءات (عن حديث سيدنا محمد صلى الله عليه و سلّم: يؤتى بأبأس أهل الأرض في الدنيا من أهل الجنة، فيغمس في الجنة غمسة واحدة، فيقال له: هل رأيت بؤساً قط، هل ذقت بؤساً قط؟، فيقول: لا، والله، ما ذقت بؤساً قط), و ها قد تحقق, فلمَ الحزن؟
كل ما أختم به (فلا أجد خاتمة مناسبة) هو أن الله يعرف ما نحبه و ما نكرهه, و هو الأدرى بما يناسبنا من ثواب و عقاب سواء في الدنيا أو الآخرة. و كما وعدت, لا يوجد أي درس كبير مستفاد أو استنتاج أكتبه, إلا مجرد تساؤلات عقل و شطحات إيمان و ثقة في الله.
No comments:
Post a Comment